من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث... النشأة المستأنفة
تأليف: جورج طرابيشي
من خلال توظيف المفهوم الخلدوني عن النشأة المستأنفة، بما تنطوي عليه من معنى القطيعة والاستمرارية في آن معاً، يسلط هذا الكتاب ضوءاً باهراً على عملية إعادة تأسيس الإسلام القرآني في إسلام حديثي، وذلك طرداً مع التحول الموازي من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ ، ومن إسلام " أم القرى " إلى إسلام الفتوحات.
فعلى حين أن إسلام الصدر الأول قد ركّز كل مجهوده " الإبستمولوجي" على تثبيت الخطاب القرآني في نص مؤسس أول، فإن الإسلام القرون التالية قد صرف كل جهده بالمقابل إلى تثبيت السنة، أي الحديث المنسوب إلى الرسول، في نص مؤسس ثانٍ من خلال المقولة الشهيرة التي ما فتئ يرددها بصوت واحد الإمام الأوزاعي في القرن الثاني والإمام الشاطبي في القرن الثامن من أن السنة جاءت قاضية على الكتاب ولم يجئ الكتاب قاضياً على السنة.
والخطورة في هذه النقلة في المرجعية في الإسلام من القرآن إلى الحديث تتمثل أولاً في ما تمخضت عنه من انقلاب خطير من المنظور التشريعي: ففي القرآن لم يكن هناك من مشرِّع سوى الله وحده ولم يكن من نصاب للرسول سوى أنه مشرَّع له . ولكن مع الحديث لم يحوَّل الرسول إلى مشرِّع فحسب، بل إن أولئك الذين أباحوا لأنفسهم أن يضعوا الحديث على لسانه قد نصّبوا أنفسهم في الواقع مشرِّعين له كما لله. ثم إن عدد الأحكام الملزمة للمكلّف في القرآن محدود للغاية ؛ أما المدوّنة الحديثية، التي حكمها قانون التضخّم المتسارع، فتتضمن آلافاً وآلافاً من الأحكام . وعلى هذا النحو يكون المكلّف في الإسلام قد تحوّل إلى ما يشبه الإنسان الآلي الذي لا يتحرك في كل نأمة من نأماته إلا بالنصوص التي تتحكم بكل ما جلّ ودقّ من شؤون حياته العامة والخاصة. وبما أن الفرضية اللاهوتية التي انتصرت في الإسلام هي فرضية الشافعي القائلة إن الرسول لاينطق إلا عن وحي حتى عندما لا ينطق بالقرآن، فقد أُنزلت الأحاديث التي وُضعت على لسان الرسول بعد وفاته منزلة الوحي الموحى، وتواضع أهل الحديث والفقه على اعتبار السنة، كالقرآن، تشريعاً إلهياً متعالياً. وككل ما هو إلهي ومتعالٍ، أو مفترض فيه أنه كذلك، انعتقت السنة وأحكامها من شروط المكان والزمان، وصارت ملزِمة للمكلّف - كما يقول ابن حزم- "إلى يوم القيامة" : فلا يتغير فيها، ولا يجوز أن يتغير فيها شيء مهما تغيرت الأحوال والوقائع وشروط التاريخ . وهذا ما حكم على العقل العربي الإسلامي ابتداء من القرن الخامس الهجري بالانكفاء على نفسه وبالمراوحة في مكانه في تكرار لا نهاية له ؛ وهذا أيضاً ما سدّ عليه الطريق إلى اكتشاف مفهوم التطور وجدلية التقدم وما يستتبعانه من تغيّر في الأحكام الوضعية ذات المصدر البشري لا الإلهي ؛ وهذا ما أسّسه أخيراً في ممانعة للحداثة تنذر في يومنا هذا بالتحوّل إلى ردّة نحو قرون وسطى جديدة.
وهو لعمري كتاب قيّم وهامّ بجميع المقاييس سواء باعتبار غزارة المراجع وسعة الاطّلاع عليها ودرجة التّمكّن منها ودقّة التّحليل المنبني على قرائن متينة فضلا عن المستوى الجيّد أو على الأقلّ فوق المتوسّط للغة الكتابة مع اعتبار ندرة عذه الخصلة الأخيرة في أيّامنا.
RépondreSupprimerلا ريب أنّ المواقف من الأطروحة المركزيّة للكتاب تختلف باختلاف الموقف العقائديّ ومنطلقات النّظر، إلاّ أنّ الكتاب جدير بالقراءة ومادّته حريّة بالتّدبّر لكلّ ذي نظر.