عند استقراءنا للتاريخ , منذ بداية الكتابة إلى يومنا هذا , نرى أنه في كل حقبة زمنية يلمع نجم و يأفل آخر , نرى بلاد ما بين النهرين تعتلي عرش الحضارة ثم تليها شعوب أخرى كاليونان و الفراعنة لتبسط نفوذها و يبلغ إشعاعها آفاق العالم الرحب ,كذلك اعتلى المسلمون في يوم ما عرش حضارة و لمع نجم الثقافة الإسلامية . من هنا نفهم قوله تعالى " وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس" , إن الذين يدرسون التاريخ و يتعمقون في فهم سنن الله وتداول السلطة أو تداول الأيام وتاريخ تحولات المعرفة والسلطة يدركون آنذاك أسباب نصر و هزيمة و صعود و سقوطأي شعب من شعوب الأرض .
اليوم , يعتبر العرب المسلمون من الشعوب المستضعفة , و هذا ما يدعو إلىالتساؤل عن أسباب تخلفنا عن ركب الحضارة الإنسانية و عجزنا عن سد الفجوة العلمية التي تفصلنا عن العالم المتقدم . و للأسف بدل البحث عن مكمن الداء و محاولة تجاوز هذا التخلف المريع , نرى قسم يروج إلى نظرية المؤامرة ( الصهيوأمريكية ) و تحميلها مسؤولية تخلفنا و يتغنى بأمجاد الماضي.
أولا : نظرية المؤامرة الماسونية , الغربية الصهيوأمريكية ضد الإسلام و المسلمين , هذه النظرية كثيرا ما تنشأ وتترعرع لدى الشعوب والمجتمعات المتخلفة ثقافيا والضعيفة العاجزة عن صنع الحلول، فهي أقصر الطرق لطرح الحمل عن الكاهل.
ثانيا : المرض بالغرب واحتمائنا بمظلة تراث الماضي في مواجهة حاضر جارح .
ثالثا : التغني بأمجاد الماضي : يعرض القرآن هذه المشكلة وهذا الداء في عبادة الأسلاف الذين يسميهم الآباء، لأن الفخر بالآباء وإنجازاتهم يحول بيننا وبين التمكن من رؤية الجولة القادمة أو اليوم الجديد الذي يداوله الله بين الناس .
هذا عرض سريع و مقتضب لآفات العقل العربي , سنقوم بمزيد التحليل و التعمق و النقد في مقالات قادمة .
بعد اطلاعي على كتاب " شوق " للدكتورة ألفة يوسف , أردت أن أقدم مداخلة بخصوص مفهومي الإسلام و الإيمان في القرآن الكريم . أولا , يجب تأكيد ما ذهبت إليه من حيث أن لا ترادف بين المصطلحات القرآنية , اذ لكل مصطلح دلالة خاصة به تشير الى معنى مخصوص . و عند تتبع كل من " الإسلام " و " الإيمان " في الآيات القرآنية , أمكن لنا اخراج كل مصطلح في سياقه .
الإسلام و المسلمون :
"إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ" الأحزاب 35. تبدو الآية جلية و واضحة في تصنيف المسلم و المؤمن كل على حدة .
نلاحظ هنا و في العديد من الآيات ارتباط مصطلح الإسلام و المسلمين بملة ابراهيم , و نعلم أن خليل الله لم تكن له شريعة آنذاك , بل اتباع ملة إبراهيم تقتضي الإيمان بالله و اليوم الآخر و نبذ الشرك و الإحسان في العمل .
"وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْنَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْصَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌفَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْيَحْزَنُونَ" البقرة، 111_ 112 . يقول الدكتور محمد شحرور قارئا لهاته الآيات :" فاليهود يحصرون الجنة باليهود، وما عداهم في النار، والنصارى يحصرون الجنةبالنصارى وما عداهم في النار، والتنزيل يعتبر ذلك كله أوهاماً منهم لابرهان عليها، ويصحح لهم أوهامهم بصراحة لا لبس فيها، قائلاً أن الجنة يدخلها كل منأسلم وجهه لله وهو محسن.
وتأتي أركان الإسلام الموضوعة لتقول: لا يقوم الإسلام إلا على التصديق برسالة محمد صلى الله عليه و سلم، وعلى الصلاة والزكاة والصيام والحج. وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله، في زعمهم، غيره، ولا يدخل الجنة إلا أصحابه. ونسأل نحن: أليسهذا بالضبط ما قالته اليهود والنصارى، فتصدى لهم سبحانه في التنزيل؟ لقد تم اعتبار الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت من أركان الإسلام. فإذا ما فتحنا التنزيل الحكيم، وجدناه يكلف المؤمنين بهذه الشعائر، وليسالمسلمين." *
المتأمل في هاته الآيات لن يخفى عليه ارتباط الإيمان دائما و أبدا بتصديق ما انزل على الرسول و من سبقه من الرسل , و يقتضي هذا التصديق الإيمان بالله و الرسل و الكتب و الملائكة و اليوم الآخر , و يجب أن يتبع هذا الإيمان الممارسات و الشعائر الطقسية من صلاة و زكاة و حج , و الآيات القرآنية الواردة و التي تقرن دائما الإيمان بممارسة الشعائر كثيرة , حيث أن إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و حج البيت مكتوبة على المؤمنين لا على المسلمين , و يمكننا ذكر بعض الآيات :
"إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا " النساء 103.
فالإسلام إذا أعم و أشمل من الإيمان , فهو دين الله بالفطرة , و هذا حسب رأينا ما عناه الله بقوله "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ" و بقوله "وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ" .
و خلاصة قولنا أن ليس كل مسلم مؤمن بالضرورة , أما المؤمن فهو مسلم , و حسب الدكتور شحرور فإن الإسلام هو الإيمان والتسليم بوجود الله وباليوم الآخر. هذا الإيمان هو رأسالتقوى، وشهادة أن لا إله إلا الله هي تذكرة الدخول إلى عالم الإسلام. أركانه هي المحرمات الواردة نصاً في التنزيل الحكيم، ومن بينها الوصاياالعشر (الفرقان) المذكورة في سورة الأنعام. و الإيمان هو التصديق بنبوات الأنبياء ورسالات الرسل كل في زمنه. فهناك مسلمون صدقوابنبوة نوح أو هود أو موسى أو عيسى أو محمد وكلهم يؤمن بالله واليومالآخر، رأس هذا التصديق بنبوة محمد هو شهادة أن محمداً رسول الله. أركانه هي الشعائرمن الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج.و المسلمون المؤمنون هم من ينطقون بالشهادتين. بالأولى صاروا مسلمين، وبالثانية صاروا مؤمنين .
و في النهاية , أردت أن أقول للدكتورة أن الإيمان لا يقترن ضرورة بالروحانية , و الإسلام بعيد كل البعد عن الفقهي الطقوسي بما أنه أشمل و أعم من أن يشير فقط الى زمرة المؤمنين بمحمد عليه الصلاة و السلام . والله أعلم .